فان لهذا الشبل ، وطنيات تراثية ملأ بها آفاق الوطن التشادي .
نبعت منه هذه الوطنيات التراثية بمنبع الحرص الشديد لهذه الآثار التي تحمل في طياتها : كلمات ، وعبارات ، ودلالات ، وحكم وأمثال ، وكنايات ، واستعارات ، وتشبيهات ، ترجع لهذا الوطن العريق بآثاره ، والفسيح بحضاراته ، والمتلوِّنُ بأشكاله وثقافاته وفلكلورياته .
لعل هذا هو السبب والدافع لمنبع الوطنيات التراثية عنده .
ولم تقف وطنياته التراثية عند هذا الحد ، بل تخطى بها عند تحمله بعضا من هموم بنت بلده التي يذكرها في كثير من المواقع ، ويرشقها بأحلى العبارات ، والكلمات .
واصفا إياها بأجمل الصفات الحميدة ، كما هو الحال في كلمة : ( القارية ـ المتعلمة ـ الشاكية من أهلي )
بسبب تطبيق لبعض العادات والتقاليد الاجتماعية في مراسيم الزواج ورفع غلاء المهور .
كما ذكر مدى تحملها وصبرها الفذ على أمها التي حالت بينها وبين تحقيق أهدافها وأهداف اختيار زوجها وشريك حياتها .
مستفهما إياها (ة بكيف ) حالها من هذه المصيبة ، ( مصيبة الوالدين ) سماها مصيبة لتشبثهما بمباديء العادات والتقاليد الاجتماعية ، منها :
التدخل في شئون اختيار من تريد الزواج به .
غلاء المهور
التعصب على بعض مراسيم العرف الاجتماعي .
لافتا أنظار الوالدين قاصدا في هذه العبارة ( إلام ) بأن المال لا تدوم له حال ، والزواج سنة ، هه وغيرها عبارت تدل على مشاركته الفعالة تجاه مستقبل بنت بلد ومنها أيضا ، عبارة : ( مال الدنيا ، ألما بدوم بعْديْن ـ بي كونقنا فقني وريال فضة ) قاصدا في ذلك لفت أنظار الوالدين إلى مثل هذه الأخلاق السيئة التي لا تمت لهما ولبنتهما بشيء .
إلى تلك القيم التي جعلت من المرأة التشادية غلاوة ، ومن المكانة لها علاوة ، ومن الذوق والتذوق بها حلاوة .
هذا إن دل فإنما يدل على الاهتمام البالغ بقضية المرأة التشادية في الجوانب الاجتماعية ، ومنذلك قصيدته :
يا بت بلدي
يا القارية
يا المتعلمة
يا الشاكية من أهلي .
كما تأرجح بنا الفنان إلى وطنيات تراثية اجتماعية ، ومن لون آخر ، تحمل في طي صفحاتها ( الفخ ) الذي ستقع فيه بنت بلده الثانية ، بسبب الحب والغرام الكاذب ، خال عن العفة ، حب اللئام ، وليس حب الكرام الشرفاء ، والذي بسببه ستعيش فيه المرأة في دوامة جرح لن يلتئم ، لعلها فقدت من يوجهها ، ويسير وينظم شئون حياتها الاجتماعية ، مبينا فيها الموقف الصعب وحيرتها الشديدة .
ولم يقف عند هذا الحد بل كثيرا ما يعيش قضايا غيره في هذه الحياة ، مما جعله أن يقدم الإعمال تلو الإعمال إلى آخر أنفاس حياته ، نيابة عن المرأة التي وقعت في مثل هذا الفخ الوعر والمظلم في حياتها .
ولذا نستطيع القول أنه أعطى رسالة في الميدان الوطني التراثي الاجتماعي الذي لم يكافأ بثمن
حيث يقول
أنت يا حبيب أنت العدو
وانت يا سمير انت العدو
جاجيتني ووديتني للما بدور
أنا بت ناس وأنا بت قبايل . .. الخ
وهناك بنت بلده التي تتردد بين رمال امكامل ومدينة أبشة ، حاملة جرتها ومرة طبقها أثناء سفرها الذي صاغه بصيغة التصغير لرفع قدره وعلو شأنه ، مخيلا إياها بهذه الصورة الكراكاتورية الجميلة حتى كانت سببا لجفاء النوم عن عينه .
وفي الأخير مستعملا إياها أساليب الترشيق بإمطارها وابل من الصفات الحميدة والكلمات والعبارات الجميلة لأنها شغلت باله بصورتها التي رسمها لنا الشاعر أحمد مهدي صديق وفي أجمل الأماكن الأثرية التاريخية ( كرمالة أمكامل ) وبعضا من الأحياء التاريخية تعتبر دخرا وذخرا من التراث الوطني ( كحلة كنين ـ منارة المسلمين ـ جاتنية ـ أمدرادر ـ العباسية ـ حي دخولية ) كما ذكر شيئا من أنواع الملابس التراثية للمرأة ( كالفركة ـ الروبعية ) ومن الأدوات ( العمرة ) وكذلك بعضا من التحايا فيما بين بني المجتمع لشعوب تلك المنطقة ( كقعدتُ تان ـ جايين تان ) حيث يقول :
يا الشايلة جريرها واردة
في امكامل دايما معانا .. الخ
ومن تلك الوطنيات التراثية في المناسبات
يقول :
صبيان الحلة ماشين السيرة
بنات الحلة ماشين السيرة .... الخ
وهناك بنت بلده التي تعيش في سراب كناية لعدم مستقبل واضح في حياتها الاجتماعية رغم ما تتمتع به من أصالة ، ذاكرا في ذلك نوعا من أنواع الألعاب الفلكلورية كتراث لا بد منه أن يحافظ .
منها :
النقارة العربية
الكرماية الوداوية
والشلاشلا الباقر ماوية
الكيتا الكانومباوية
الكوكما البلالاوية
كما دعا بنت بلده إلى الاهتمام ببعض الأدوات التجميلية وغيرها من الأدوات المستمدة من تراثه الوطني وحضارته ، مثل : ( الدلكة )
وكذلك الأدوات المنزلية ( كالكريو ـ البرتال ـ الكرتال ـ المرهاكة ـ العمرة) ولعل هذه الأدوات لم تكن معروفة لدى الكثيرين من أجيال العواصم والمدن الكبرى إلا قليلا منهم ، لأنهم لم يزوروا يوما مناطق آبائهم وأجدادهم .
فمن هنا نقول أن الفنان : أحمد مهدي صديق ، صاحب سعةُ عقلٍ ، وعمقُ فكرٍ ، وقدرةُ فنٍ ، ودقةُ إدراك وتحليل ، فيما يتناوله من قضايا فنية وتراثية .
فهو شخصية اجتماعية بطبعه ، لا يمكنه العيش بمعزلٍ عن بني جنسه . بل هو من أشد الناس تأثرا بغيره ، وخاصة ببيئة وطنه الغنية بكل ما تعنيه هه الكلمة من معنى .
لأنه ابنها ومنتميا إليها بكل حواسه وفي جميع حركاته وسكناته ، كما تأثر بماضيه الذي لم يعشه ، كزمن جنب انقاتو ـ زمن السلاطين ـ زمن أهلنا الزَّين ، وبكل إبدع ، ونبرة فنية ، ونغمة موسيقية ، وجرأة وشهامة تشادية .
ومن الأمثلة التي سنوجزها لكم هنا : ( كيلو بت الدقيل )
كيلو بت الدقيل :
فهي قصيدة من القصائد التي كتبها الفنان أحمد مهدي صديق ( بيكوس ) بتجارب شعورية عالية وصادقة ، تدفقت منه كلمات وعبارات تراثية ، يرجع تاريخا إلى عرب شاري باقرمي . قاصدا في ذلك : الحرص الشديد على هذا التراث اللغوي التاريخي والفني لشعوب هذه المنطقة .
لو تعرجنا قليلا إلى تاريخ : ( كيلو ) نجد أنها من مواليد 1883م بقرية ( تُكْرة ) جنوب العاصمة ، وبعد ميلادها ب 16 سنة دخل رابح ابن فضل أراضي أنجمينا ، على حد قولها بنفسها حين زارتها : حاجة حليمة ديبي ، وعدد من مسائيل الوزارة الاجتماعية وأحمد بيكوس مرافقا لهم ، عام 1996م .
فكانت هذه الزيارة سببا في كتابة القصيدة ( كيلو بت الدقيل ) علما أن رابح دخل أنجمينا عام 1990م فالفارق ما بين دخول رابح ، وميلاد كيلو 16 سنة ،
واسمها الحقيقي ( التومة مريم ) ، ووافتها المنية بتاريخ : 5/1/1997م .
عاشت عمرا يناهز ما بين : 112 إلى 113 سنة .
النص :
كيلو بت الدقيل
وصفك جمال وكمال
رسموك الختم
كيلو بت الدقيل
* * *
مرسومة في آلاف قروش
رمز البلد
ألما بتنسي يا كيلو بت الدقيل
* * *
عمرك سنين طويلة
وأنا بشوف فيك
تشادية وفي فورلامي كيف ؟
زمن جنب انقاتو
زمن أهلنا الزين
زمن السلطنة
سلطان شريف كاسر
وفي ماسينيا
السلطان بانقاورقا
* * *
جسمك حريري
ذكرة سلاطين
ذكرة عربنا دقت
ولأمي انتر قادي
كيلو بت الدقيل
ألممشوطة رسمي تشادي
كيلو بت الدقيل
ذكرة لكل تشادي
كيلو بت الدقيل
رمزة بلادي
كيلو بت الدقيل
كيلو هيل الدقيل
وصف فناننا أحمد مهدي صديق ( التومة مريم ) بأدقِ وصفٍ فنيٍ فريدٍ ، وبأقل ألفاظ ذات دلالة تاريخية تراثية لعرب شاري باقرمي ( كذكرة عربنا دقت ـ ولأمي انتر قادي )
كما أشار إلى مكانتها الوطنية التي غرست في أذهان وقلوب العديد من الأجيال ، كرمز لهذا البلد ،
وصف جمالها المتمثل في جسمها الحريري كناية لنعومتها ونضارة جسمها
بناؤه للقصيدة بناء حديثا ، لما لها من وحدة عضوية . مع تنوع في حروف رويها .
تسمته لها باسم يرجع إلى تراثها الحقيقي ( كيلو )
بينت القصيدة مدى سعة عقلية الفنان ، وعمق التخيل في وصفه وتصويره الصورة القديمة للتومة مريم أثناء شبابها رغم أنه لم يراها في ذاك الوقت .
مذكرا إيانا تاريخ الآباء والأجداد الأوائل الذين حافظوا على سعة هذه الأراضي التشادية حتى سلموا لأبنائهم من بعدهم ، كالسلطان شريف كاسر وبانقورانق ، وآخرون لم يردوا في هذه القصيدة
ولم ينس الفنان الأماكن التاريخية التي تتردد فيها ( التومة مريم ) كجنب انقاتو .
بالإضافة إلى الكلمات التراثية التي لم تكن مستعملة الآن ، مثل :
زمن أهلنا الزين
ذكرة عربنا دقت
ولأمي انتر قادي
كيلو هيل الدقيل
استعمل الفنان أساليب الرشاقة كعادته في كثير من أغانيه وكتاباته المشوقة بفضل هذا الأسلوب لدى سامعيه ، ودقِّه أبواب القلوب المنفعلة لذلك .
حيث يقول :
كيلو بت الدقيل
الممشوطة رسم تشادي
كيلو بت الدقيل
رمزة بلادي
كيلو بت الدقيل
كيلو هيل الدقيل
وكأنه بذلك لفت أنظار الكتاب والمثقفين إلى مكانة هذه الرمزة التاريخية التي تُعد أُسطورة من أساطير التراث الحضاري تتشاد .
تخطت التومة مريم هذه المرحلة بنعومة جسمها الحريري ، ونضارة جسمها الجمالي ، وحسن مشطتها التي فاقت في المسابقات الجمالية ، رغم وجود الكثير من المعالم الحضارية في هذا الوطن العريق .
كما لفت أنظار السلطات التشادية لفتا غير مباشر ، تجاه حق هذه الرمزة ، صاحبة الرسمة التاريخية في الختم الرسمي التشادي .
نعم وقد أراد بذلك عدم تجاهلها ونسيانها ـ حبذا لو أكرمتها وزارة الثقافة والمسرح في يوم ذكرة ميلادها ـ .
استطاع التوفيق ما بين الفن النظري والتطبيقي في آن واحد ، كما هو الحال في كتابته النصوص الشعرية ، والقيام بتلحينها ، ثم أدؤها .
خياله هنا خيالا فطريا طبيعيا .
رافضا في فنه الجمود والتكلف والتعقيد مع مراعاة تطوير القيم الفاضلة الرفيعة من خلال الفن التراثي الاجتماعي ، والتي اتخذها سبيلا للتعاون وتوجيه الآخرين من أفراد المجتمع .
ممن تأثروا بالقيم الدينية الإسلامية التي ترى فيه وتسمع من خلال كلماته .
جعل المرأة قضية من قضاياه الأساسية في حياته . ، ولذا كتب العديد من المواضيع الاجتماعية نيابة عنها ، وفي مختلف الميادين ، الاجتماعية والسياسية والوطنية إلا ذكرها .
حيث يقول :
معاي في النضال
معاي في البنا
وفي المكاتب
معاي في كل مكان
الأستاذ / محمد طاهر عبد القادر